أين أنا بين أهل الدنيا وأهل الآخرة (إِنَّ
الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا
غَافِلُونَ*أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ
وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ
الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) ـ (اعْلَمُوا أَنَّمَا
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ
وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ
الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ
حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ
وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) ـ
(بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)
حب الدنيا والاطمئنان لها ونسيان الآخرة يترتب عليه كسب يستحق به صاحبه دخول النار
إن
طالب الدنيا لا يهمه إلا قضاء شهواته ولذاته والوصول إلى أطماعه دون قيود
ولا ضوابط فهو وراء المرأة والخمر والكسب الحرام 00000 إلخ
ـ روى أن
رسول الله r مر على شاة ميتة فقال " أترون هذه الشاة هينة على أهلها؟
قالوا: من هونها ألقوها قال : " والذي نفسي بيده الدنيا أهون على الله من
هذه الشاة على أهلها ولو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى
كافراً منها شربة ماء " { كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل } ـ وقال
النبي r { الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر} ـ وقوله { ما الدنيا في الآخرة
إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع } ـ { اقتربت الساعة
ولا يزداد الناس على الدنيا إلا حرصاً، ولا يزدادون من الله إلا بعداً}
ـ والدنيا والآخرة عبارة عن حالتين القريب منك الداني يسمى الدنيا ، والمتراخي المتأخر يسمى الآخرة
حياة الأشقياء في الدنيا:
في
شقاء وتعب وصدورهم ضيقة لأن قلوبهم لم تخلص إلى اليقين والهدى وإن تنعم
ظاهرهم فلبسوا ما شاؤوا وأكلوا ما شاؤوا وسكنوا حيث شاؤوا… قال تعالى: {
وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى }
أولا : مظاهر حب الدنيا والبعد عن الآخرة :
(1) الوقوع في المعاصي وارتكاب المحرمات: ومن العصاة من يرتكب معصية يصر
عليها ومنهم من يرتكب أنواعا من المعاصي, وكثرة الوقوع في المعصية يؤدي إلى
تحولها عادة مألوفة ثم يزول قبحها من القلب تدريجا حتى يقع العاصي في
المجاهرة بها ويدخل في حديث
كل أمتي معافي إلا المجاهرين, وإن من
المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان
عملت البارحة كذا, وكذا, وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه) رواه
البخاري.
(2) الشعور بقسوة القلب وخشونته: حتى ليحس الإنسان أن قلبه قد
انقلب حجرا صلدا لا يشرح منه شيء ولا يتأثر بشيء, والله جل وعلا يقول: {
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ
أَشَدُّ قَسْوَة } وصاحب القلب القاسي لا تؤثر فيه موعظة الموت ولا ؤية
الأموات ولا الجنائز, وربما حمل الجنازة بنفسه, وواراها بالتراب, ولكن سيره
بين القبور كسيرة بين الأحجار.
(3) عدم إتقان العبادات: ومن ذلك شرود
الذهن ثناء الصلاة, وتلاوة القرآن والأدعية ونحوها, وعدم التدبر والتفكر
في معاني الأذكار, فيقرؤها بطريقة رتيبة مملة هذا إذا حافظ عليها, ولو
اعتاد أن يدعو بدعاء معين في وقت معين أتت به السنة فإنه لا يفكر في معاني
هذا الدعاء: (…. لا يقبل دعاء من قلب غافل لاه ) رواه الترمذي.
(4)
التكاسل عن الطاعات والعبادات واضعاتها : وإذا أداهما فإنما هي حركات جوفاء
لا روح فيها والعياذ بالله, وقد وصف الله-عز وجل- المنافقين بقوله:{
وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى } ويدخل في ذلك عدم
الاكتراث لفوات مواسم الخير وأوقات العبادة وهذا يدل على عدم اهتمام الشخص
بتحصيل الأجر. فقد يؤخر الحج وهو قادر ويتفارط الغزو وهو قاعد, ويتأخر عن
صلاة الجماعة ثم عن صلاة الجمعة وقد قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم- (
لا يزال قوم يتأخرون عن الصف الأول يخلفهم الله في النار) رواه أبو داود.
ومثل هذا لا يشعر بتأنيب الضمير إذا نام عن الصلاة المكتوبة, وكذا لو فاته
سنة راتبة أو ورد من أوراده فإنه لا يرغب في قضائه ولا تعويض ما فاته, وكذا
يتعمد تفويت كل ما هو سنة أو من فروض الكفاية, فربما لا يشهد صلاة
العيد(مع قول بعض أهل العلم بوجوب شهودها) ولا يصلي الكسوف والخسوف, ولا
يتهم بحضور الجنازة ولا الصلاة عليها, فهو راغب عن الأجر, مستغن عنه على
النقيض ممن وصفهم الله بقوله: { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي
الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ
} ومن مظاهر التكاسل في الطاعات, التكاسل عن فعل السنن الرواتب, وقيام
الليل, والتبكير إلى المساجد وسائر النوافل فمثلا صلاة الضحى لا تخطر له
ببال فضلا عن ركعتي التوبة وصلاة الاستخارة.
(5) ضيق الصدر وتغير المزاج
وانحباس الطبع: حتى كأن على الإنسان ثقلاً كبيراً ينوء به ، فيصبح سريع
التضجر والتأفف من أدنى شيء ، ويشعر بالضيق من تصرفات الناس حوله وتذهب
سماحة نفسه ، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم ، الإيمان بقوله : (
الإيمان : الصبر والسماحة )
6- عدم التأثر بآيات القرآن : لا بوعده ولا
بوعيده ولا بأمره ولا نهيه ولا في وصفه للقيامة ، فضعيف الإيمان يمل من
سماع القرآن ، ولا تطيق نفسه مواصلة قراءته فكلما فتح المصحف كاد أن يغلقه .
7-
الغفلة عن الله عز وجل في ذكره ودعائه سبحانه وتعالى : فيثقل الذكر على
الذاكر ، وإذا رفع يده للدعاء سرعان ما يقبضهما ويمضي وقد وصف الله
المنافقين بقوله : ( ولا يذكرون الله إلا قليلاً )
8- ومن مظاهر ضعف
الإيمان : عدم الغضب إذا انتهكت محارم الله عز وجل لأن لهب الغيرة في القلب
قد انطفأ فتعطلت الجوارح عن الإنكار فلا يأمر صاحبه بمعروف ولا ينهى عن
منكر ولا يتمعر وجهه قط في الله عز وجل ، والرسول صلى الله عليه وسلم يصف
هذا القلب المصاب بالضعف بقوله في الحديث الصحيح : ( تعرض الفتن على القلوب
كالحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها } أي : دخلت فيه دخولاً تاماً { نكت
فيه نكتة سوداء } أي : نقط فيه نقطة { حتى يصل الأمر إلى أن
يصبح كما أخبر عليه الصلاة والسلام في آخر الحديث : ( أسود مربادا } بياض
يسير يخالطه السواد { كالكوز مجخياً } مائلاً منكوساً { لا يعرف معروفاً
ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه )
9- حب الظهور: الرغبة في الرئاسة
والإمارة وعدم تقدير المسؤولية والخطر ، وهذا الذي حذر منه رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، بقوله : ( إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم
القيامة فنعم المرضعة وبئس الفاطمة ) ( قوله : نعم المرضعة أي أولها لأن
معها المال والجاه واللذات ، وقوله : بئس الفاطمة أي : آخرها لأن معه القتل
والعزل والمطالبة بالتبعات يوم القيامة )
10- محبة تصدر المجالس :
والاستئثار بالكلام وفرض الاستماع على الآخرين وأن يكون الأمر له ، وصدور
المجالس هي المحاريب التي حذرنا منها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله :
( اتقوا هذه المذابح - يعني المحاريب - )
11- محبة أن يقوم له الناس
إذا دخل عليهم : لإشباع حب التعاظم في نفسه المريضة وقد قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : ( من سره أن يمثل } أي ينتصف ويقوم { له عباد الله قياماً
فليتبوأ بيتاً من النار ) رواه البخاري
12- الشح والبخل : ولقد مدح
الله الأنصار في كتابه فقال : ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة )
وبين أن المفلحين هم الذين وقوا شح أنفسهم ولا شك أن ضعف الإيمان يولد الشح
بل قال عليه الصلاة والسلام : ( لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبداً )
أما خطورة الشح وآثاره على النفس فقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم
بقوله :
( إياكم والشح فإنما هلك من كان قبلكم بالشح ، أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا وأمرهم بالفجور ففجروا )
13- أن يقول الإنسان ما لا يفعل : قال الله تعالى
يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ، كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون )
14-
احتقار المعروف : وعدم الاهتمام بالحسنات الصغيرة وقد علمنا صلى الله عليه
وسلم أن لا نكون كذلك فقد روى الإمام أحمد رحمه الله عن أبي جري الهجيمي
قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت يا رسول الله ؟ إنا قوم من
أهل البادية فعلمنا شيئاً ينفعنا الله تبارك وتعالى به فقال : ( لا تحقرن
من المعروف شيئاً ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستقي ، ولو أن تكلم أخاك
ووجهك إليه منبسطاً )
15- عدم الاهتمام بقضايا المسلمين ولا التفاعل
معها بدعاء ولا صدقة ولا إعانة : فهو بارد الإحساس تجاه ما يصيب إخوانه في
بقاع العالم من تسلط العدو والقهر والاضطهاد والكوارث ، فيكتفي بسلامة نفسه
، وهذا نتيجة ضعف الإيمان ، فإن المؤمن بخلاف ذلك ، قال النبي صلى الله
عليه وسلم : ( إن المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، يألم
المؤمن لأهل الإيمان كما يألم الجسد لما في الرأس )
16- الفزع والخوف
عند نزول المصيبة أو حدوث مشكلة : فتراه مرتعد الفرائص ، مختل التوازن ،
شارد الذهن ، شاخص البصر ، يحار في أمره عندما يصاب بملمة أو بلية فتنغلق
في عينيه المخارج وتركبه الهموم فلا يستطيع مواجهة الواقع بجنان ثابت ،
وقلب قوي وهذا كله بسبب ضعف إيمانه ، ولو كان إيمانه قوياً لكان ثابتاً ،
ولواجه أعظم الملمات وأقسى البليات بقوة وثبات .
17- التعلق بالدنيا ،
والشغف بها ، والاسترواح إليها : فيتعلق القلب بالدنيا إلى درجة يحس صاحبه
بالألم إذا فاته شيء من حظوظها كالمال والجاه والمنصب والمسكن ، ويعتبر
نفسه مغبوناً سيء الحظ لأنه لم ينل ما ناله غيره ، ويحس بألم وانقباض أعظم
إذا رأى أخاه المسلم قد نال بعض ما فاته هو من حظوظ الدنيا ، وقد يحسده ،
ويتمنى زوال النعمة عنه ، وهذا ينافي الإيمان كما قال النبي صلى الله عليه
وسلم : ( لا يجتمعان في قلب عبد الإيمان والحسد )
18- المغالاة في
الاهتمام بالنفس مأكلاً ومشرباً وملبساً ومسكناً ومركباً : فتجده يهتم
بالكماليات اهتماماً بالغاً ، فينمق هندامه ويجهد نفسه بشراء الرقيق من
اللباس ويزوق مسكنه وينفق الأموال والأوقات في هذه التحسينات ، وهي مما لا
ضرورة له ولا حاجة - مع أن من إخوانه المسلمين من هم في أشد الحاجة لهذه
الأموال - ويعمل هذا كله حتى يغرق في التنعيم والترفه المنهي عنه كما في
حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه لما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم إلى
اليمن وأوصاه فقال : ( إياك والتنعيم ، فإن عباد الله ليسو بالمتنعمين )
ثانياً : أسباب ضعف الإيمان حب الدنيا والبعد عن الآخرة :
1-
الابتعاد عن الأجواء الإيمانية فترة طويلة : وهذا مدعاة لضعف الإيمان في
النفس ، يقول الله عز وجل : ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر
الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم
الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ). فدلت الآية الكريمة على أن : طول
الوقت في البعد عن الأجواء الإيمانية مدعاة لضعف الإيمان في القلب ، فمثلاً
: الشخص الذي يبتعد عن إخوانه في الله لفترة طويلة لسفر أو وظيفة ونحو ذلك
فإنه يفتقد الجو الإيماني الذ