مقدمة
الحبيب علي الجفري يكتب: مفــهـوم الإرادة
14/٩/٢٠٠٨
يقول الله تعالي: «مَنْ كَانَ يرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَي لَهَا سَعْيهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيهُمْ مَشْكُورًا» (الإسراء ١٨-١٩).
تأملوا قوله تعالي: «مَنْ كَانَ يرِيدُ الْعَاجِلَةَ» و«وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ»، فالكلام هنا عن مفهوم الإرادة، وجميع مَن في الأرض بهذا المعني مريدون: إما مريداً للدنيا وإما مريداً للآخرة ولله سبحانه وتعالي، ومن ثم فوجودنا وحياتنا ومصيرنا جميعاً في هذا الدنيا مرتبطة بما نحن نريد ونتوجه أو نقصد، وقد جعل الله تعالي مجرد إرادة الدنيا ووجهتها - في حد ذاتها ودون ذكر للسعي في تحقيق تلك الإرادة- سبباً في حصول الخسران والعذاب والغضب، ثم جعل تعالي من إرادة الآخرة - مقرونة بالسعي الذي يترتب علي هذه الإرادة- سبباً للفوز والسعادة.
وجميع مَن في الأرض بهذا المعني مريدون
فهل يكون ما يطلبه أحدنا ويريده من طيب الطعام واللباس والأثاث مما يدخل ضمن دائرة «إرادة الدنيا»، فيكون بذلك متعرضاً لغضب الله تعالي والخسران؟ ثم هل المقصود من «إرادة الآخرة» ألا يكون لنا نصيب في الدنيا أو صلة بها وبموجوداتها؟
لأنه إذا كان المقصود من الدنيا ما يتعلق بحياة الإنسان في الأرض، فإن ساداتنا وقدوتنا من الصحابة والتابعين والصالحين والصالحات قد أكلوا وشربوا ولبسوا من أطيبها وأزكاها، فأين وجه الذم؟
إن الذم المقصود هنا في إرادة الدنيا أمران: أولهما تعلق القلب، والثاني انشغال الجسد بما سبق أن تعلق به القلب. فالأمر الأول يعني أن يعيش الإنسان وليس له من هدف سوي التمتع في هذه الدنيا، إلي درجة أن يعيش لها، ثم ما يترتب علي ذلك من صرف الوقت والجهد والمال من أجل أن يعيش بها، فهو بداية وحقيقة لا يريد سوي الدنيا ومن ثم يكرس كل ما يملكه من جهد ووقت ومال ليعيش من أجلها، وهنا تأتي الإشكالية.
إن الذم المقصود هنا في إرادة الدنيا أمران
وهي إشكالية تتضح أبعادها وندرك نتائجها إذا ما تساءلنا عما هو أقصي ما يحتاج إليه الإنسان في هذه الدنيا حتي يحيا من أجلها؟ إن حقيقة ما يحتاجه كل إنسان- المسلم وغير المسلم والعاقل والمجنون والرجل والمرأة- لا يخرج عن ثلاثة: طعام يتقوي به بدنه، ولباس يستر به عورته، ومأوي له ومن يعول، إلا أن هناك فارقاً كبيراً بين من يأكل اللقمة وهو يريد منها أن يحافظ علي أمانة الجسد الذي ائتمنه الله عليه وبين من يأكلها لمجرد الاستمتاع ولذة الطعام.
فأقول لك: تمتع وتشه كما تشاء، لكن اجعل هذه اللقمة الطيبة التي ساقها الله لك مسبوقة بالنية في أن تستخرج معني الحمد لله تعالي من قلبك. ولهذا يذكرون أن الإمام علي - كرم الله وجهه ورضي عنه - سئل: هل تشرب الماء البارد أم الماء القراح؟ فأجاب بأنه يشرب الماء البارد، وذلك لأنه يستخرج الحمد من صميم القلب.
حقيقة الأمر أن المسألة هنا - وفي غيرها بالقياس- ترجع إلي الإرادة بين من يأكل طعاماً أو يلبس لباساً ونيته من هذا الحلال الذي أخذ به أن يستخرج معني الشكر لله تعالي خالصة من قلبه، وبين من قد يأكل نفس الطعام أو يلبس ذات اللباس لمجرد إرادة التمتع وأن يعيش في هذه الدنيا ولها. فالأول هو مريد للآخرة والثاني مريد دنيا وإن اجتمعا في وسائل التمتع بطيبات الحياة الدنيا. لأن السعي في الدنيا لا يضر الساعي إلا إذا اقترن هذا السعي بنوع «إرادة»، فلا ضير في أن يسعي الإنسان في طلب الدنيا لا للدنيا ولكن بإرادة الآخرة.
هل هناك إشكالية في أن يطلب الإنسان ويريد التمتع في هذه الدنيا فحسب؟ ليس الإشكال في أن يتمتع ولكن أن يطغيه هذا التمتع ويدفعه إلي أن يفرط في المقصد الذي يعيش من أجله، والتفريط في المقصد هو سبب ما نعاني منه من مشكلات وأزمات، ابتداء من الحسد والتباغض والقطيعة وانتهاء بإهدار مقدرات الأرض وصرفها عن دلالات التسخير والعمران إلي مضاداتها مما نحياه ونعرفه.
وإذا تأملنا النزاعات التي تقوم بين الدول، وبين طوائف الشعب في الدولة الواحدة، وبين الأرحام والأقارب، وفي داخل البيت الواحد والأسرة الواحدة، لوافقتموني في النهاية علي أن كل الإشكالات الكبري والإقليمية والمحلية والأسرية ترجع إلي نفس الإنسان، وأن السعادة والشقاء والغضب والرضا والطمأنينة والقلق مرجعها إلي نفس الإنسان، ولهذا لما أقسم الله تعالي بمظاهر الوجود من الشمس والقمر والليل والنهار والسماء والأرض جعل منتهاها وخاتمتها القسم بالإنسان: «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا» ( الشمس ٧-٨)، مع جواب القسم هنا: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا» (الشمس ٩ ـ ١٠)، لأن هوي النفس إله يعبد من دون الله «أَرَأَيتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيهِ وَكِيلًا» (الفرقان ٤٣).
إن الإنسان إذا ما تعامل مع متطلبات النفس ومتعها فحسب واستجاب لكل ما تريده، فإنه يقع في مشكلتين كبيرتين: الأولي أن مرادات النفس لا تنتهي، فإن أعطيتها شيئاً امتثالاً لأمرها هي طالبتك بالثاني والثالث والمزيد حتي لتصل إلي درجة تفقد معها التمتع بما كانت تشتهيه فتطلب شيئاً خارجاً عن إطار المألوف والمعقول، بل المنافي للفطرة الإنسانية السوية، فالنفس لا ترضي عنك مهما سعيت في رضاها، وكلما أرضيتها بشيء طالبتك بالمزيد.
والمشكلة الثانية في إشباع متطلبات النفس أنها متعة ولذة مؤقتة تنتهي بمجرد الإشباع مثلما تنتهي في الحياة الدنيا قبل الآخرة، فسعادة النفس الدائمة أمل غير قابل التحقق، والنفس إذا طغي هواها وغلبت شهواتها وسيطرتها علي الإنسان حالت بينه وبين حقائق التزكية وقادته إلي الخيبة والخسران.
بينما الذي ينتقل من مراد الدنيا إلي مراد الآخرة مريداً لله تعالي إذا تلذذ - من ناحية - بالطعام الذي أكله وحمد الله الذي رزقه وشهد المنة لله، فإنه يصل لذته وفرحه ومتعته بالله...لذة دائمة باقية عنده طوال حياته ببركة رزقه الطيب وشهود المنة لله، وحتي بعد مماته إذ يثاب ثمرة ذلك الحمد والشكر عند وقوفه بين يدي الله. ومن ناحية ثانية فإنه سيكون مالكاً لزمام نفسه لا مملوكاً لها تسيره كيفما أرادت، فتنبه لهذا الأمر وتيقن أن الذي يعيش وهو يتناول متع الدنيا المباحة لكنه مريد لله وليس للدنيا يعيش قوياً بالله مالكاً نفسه.
إذا لم تصح النية لم يصح العمل
ولهذا فإن أول الطريق في السير إلي الله تعالي - وبداية سلسلة هذه المقالات -هو تصحيح النية، فإذا لم تصح النية لم يصح العمل، ومن لم يصحح نيته فإن كل أعماله فيها دخن ، وأمر العمل مقرون بالارتقاء بمستوي النية إلي المعني، الذي تتضاعف فيها الأعمال لصاحبها، ليجد الإنسان مراتب لم يكن قد عمل لها، لكن بسبب صدق النية في قلبه لارتقاء هذه المراتب يمكّنه الله تعالي منها، لأن الله مطّلع علي النيات.
فاللهم إنك مطلع علي القلوب ومطلع علي نواياها نسألك اللهم ألا يبقي منا أحد إلا وقد صححت نيته في الإقبال عليك، اللهم اجعل إرادتنا لك ولوجهك الكريم، اللهم اجعلنا من مريدي الآخرة ولا تجعلنا من مريدي الدنيا برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلِّ الله علي سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.